فصل: الفصل السابع: شرط التأويل، البرهان القاطع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الفصل الخامس: المراتب الخمسة وأمثلتها في التأويل:

اسمع الآن أمثلة هذه الدرجات في التأويلات:
أما الوجود الذاتي: فلا يحتاج إلى مثال، وهو الذي يجري على الظاهر، ولا يتؤول، وهو الوجود المطلق الحقيقي.
وذلك كإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن العرش، والكرسي، والسموات السبع.
فإنه يجري على ظاهره، ولا يتؤول، إذ هذه أجسام موجودة في نفسها، أدركت بالحس والخيال أم لم تدرك.
وأما الوجود الحسي: فأمثلته في التأويلات كثيرة، وأكتفي منها بمثالين:
أحدهما: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يؤتى بالموت يوم القيامة في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار». فإن من قام عنده البرهان على أن الموت عرض، أو عدم عَرَض.وأن قلب العرض جسمًا، مستحيل غير مقدور، ينزل الخبر على أن أهل القيامة يشاهدون ذلك ويعتقدون أنه الموت، ويكون ذلك موجودًا في حسهم، لا في الخارج، ويكون سببًا لحصول اليقين باليأس من الموت، بعد ذلك، إذ المذبوح ميئوس منه.
ومن لم يقم عنده هذا البرهان، فعساه يعتقد أن نفس الموت ينقلب كبشًا في ذاته ويذبح.
المثال الثاني: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. عرضت علي الجنة في عرض هذا الحائط.فمن قام عنده البرهان على أن الأجسام لا تتداخل، وأن الصغير لا يسع الكبير، حمل ذلك على أن نفس الجنة لم تنتقل إلى الحائط، لكن تمثل للحس صورتها في الحائط، حتى كأنه يشاهدها.
ولا يمتنع أن يشاهد مثال شيء كبير في جرم صغير، كما تشاهد السماء في مرآة صغيرة، ويكون ذلك إبصارًا مفارقًا لمجرد تخيل صورة الجنة؛ إذ تدرك التفرقة بين أن ترى صورة السماء في المرآة. وبين أن تغمض عينيك فتدرك صورة السماء في المرآة على سبيل التخيل.
وأما الوجود الخيالي: فمثاله قوله صلى الله عليه وسلم: «كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه عباءتان قطوانيتان، يلبي وتجيبه الجبال، والله تعالى يقول له: لبيك يا يونس».
والظاهر أن هذا إنباء عن تمثيل الصورة في خياله، إذ كان وجود هذه الحالة سابقًا على وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد انعدم ذلك، فلم يكن موجودًا في الحال.
ولا يبعد أن يقال أيضًا: تمثل هذا في حسه حتى صار يشاهده كما يشاهد النائم الصور. ولكن قوله: «كأني أنظر» يشعر بأنه لم يكن حقيقة النظر، بل كالنظر.
والغرض التفهيم بالمثال، لا عين هذه الصورة.
وعلى الجملة: فكل ما يتمثل في محل الخيال، فيتصور أن يتمثل في محل الإبصار، فيكون ذلك مشاهدة.
وكل ما يتميز بالبرهان استحالة المشاهدة فيما يتصور فيه التخيل.
وأما الوجود العقلي: فأمثلته كثيرة، فأقنع منها بمثالين:
أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: «من يخرج من النار يعطى من الجنة عشرة أمثال هذه الدنيا». فإن ظاهر هذا يشير إلى أنه عشرة أمثالها: بالطول والعرض والمساحة. وهو التفاوت الحسي والخيالي.
ثم قد يتعجب فيقول: إن الجنة في السماء، كما دلت عليه ظواهر الأخبار. فكيف تتسع السماء لعشرة أمثال الدنيا، والسماء أيضًا من الدنيا. وقد يقطع المتأول هذا التعجب، فيقول:
المراد به تفاوت معنوي عقلي، لا حسي، ولا خيالي.
كما يقال مثلًا: هذه الجوهرة، أضعاف الفرس. أي في روح المالية ومعناها المدرك عقلًا، دون مساحتها المدركة بالحس والتخيل.
المثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خمر طينة آدم بيده أربعين صباحًا». فقد أثبت لله تعالى يدًا.
ومن قام عنده البرهان على استحالة يد لله تعالى، هي جارحة محسوسة، أو متخيلة فإنه يثبت لله سبحانه يدًا روحانية عقلية. أعني أنه يثبت معنى اليد، وحقيقتها، وروحها، دون صورتها.
إن روح اليد ومعناها، ما به يبطش ويفعل، ويعطى ويمنع، والله تعالى يعطي ويمنع بواسطة ملائكته، كما قال عليه الصلاة والسلام: «أول ما خلق الله العقل، فقال: بك أعطي وبك أمنع».
ولا يمكن أن يكون المراد بذلك العقل عرضًا، كما يعتقده المتكلمون، إذ لا يمكن أن يكون العرض أول مخلوق، بل يكون عبارة عن ذات ملك من الملائكة يسمى عقلًا، من حيث يعقل الأشياء بجوهره من غير حاجة إلى تعلم.
وربما يسمى قلمًا، باعتبار أنه تنقش به حقائق العلوم في ألواح قلوب الأنبياء، والأولياء وسائر الملائكة، وحيًا وإلهامًا، فإنه ورد في حديث آخر: «أن أول ما خلق الله تعالى القلم»، فإن لم يرجع ذلك إلى العقل، تناقض الحديثان. ويجوز أن يكون لشيء واحد أسماء كثيرة، باعتبارات مختلفة:
فيسمى عقلًا باعتبار ذلك.
وملكا باعتبار نسبته إلى الله تعالى في كونه واسطة بينه وبين الخلق.
وقلمًا باعتبار إضافته إلى ما يصدر منه من نقش العلوم بالإلهام والوحي.
كما يسمى جبريل روحًا باعتبار ذاته.
وأمينًا باعتبار ما أودع من الأسرار.
وذا مرة باعتبار قدرته.
وشديد القوى باعتبار كمال قوته.
ومكينًا عند ذي العرش باعتبار قرب منزلته.
ومطاعًا باعتبار كونه متبوعًا في حق بعض الملائكة.
وهذا القائل يكون قد أثبت قلمًا، ويدًا عقليًا، لا حسيًا وخياليًا.
وكذلك من ذهب إلى أن اليد عبارة عن صفة لله تعالى إما القدرة، أو غيرها كما اختلف فيه المتكلمون.
وأما الوجود الشبهي: فمثاله الغضب، والشوق، والفرح، والصبر، وغير ذلك، مما ورد في حق الله تعالى.
فإن الغضب مثلًا حقيقته: أنه غليان القلب، لإرادة التشفي. وهذا لا ينفك عن نقصان وألم.
فمن قام عنده البرهان على استحالة ثبوت نفس الغضب لله تعالى، ثبوتًا: ذاتيًا، وحسيًا، وخياليًا، وعقليًا نزله على ثبوت صفة أخرى يصدر منها ما يصدر من الغضب، كإرادة العقاب. والإرادة لا تناسب الغضب في حقيقة ذاته، ولكن في صفة من الصفات تقارنها، وأثر من الآثار يصدر عنها، وهو الإيلام. فهذه درجات التأويل.

.الفصل السادس: ضرورة التأويل مفروضة على جميع الفرق:

اعلم أن كل من نزل قولًا من أقوال صاحب الشرع على درجة من هذه الدرجات، فهو من المصدقين. وإنما التكذيب أن ينفي جميع هذه المعاني، ويزعم أن ما قاله لا معنى له، وإنما هو مكذب محض، وغرضه فيما قاله التلبيس، أو مصلحة الدنيا.
وذلك هو الكفر المحض، والزندقة. ولا يلزم كر المؤولين ماداموا يلازمون قانون التأويل كما سنشير إليه. وكيف يلزم الكفر بالتأويل، وما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه.
فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل رحمة الله عليه. وأبعد التأويلات عن الحقيقة وأغربها أن تجعل الكلام مجازًا، أو استعارة، وهو الوجود العقلي، والوجود الشبهي.
والحنبلي مضطر إليه وقائل به، فقد سمعت الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون إن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى صرح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط.
أحدها: قول صلى الله عليه وسلم: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض».
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن».
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن».
فانظر الآن كيف أول هذا؟ حيث قام البرهان عنده على استحالة ظاهره. فيقول: اليمين تقبل في العادة تقربًا إلى صاحبها. والحجر الأسود يقبل أيضًا تقربًا إلى الله تعالى. فهو مثل اليمين، لا في ذاته، ولا في صفات ذاته، ولكن في عارض من عوارضه، فسمي لذلك يمينًا. وهذا هو الوجود الذي سميناه الوجود الشبهي، وهو أبعد جوه التأويل.
فانظر كيف اضطر إليه أبعد الناس عن التأويل.
وكذلك لما استحال عنده وجود الإصبعين لله تعالى، حسًا، إذ من فتش عن صدره، لم يشاهد فيه إصبعين، فتأوله على روح الإصبعين، وهي الإصبع العقلية الروحانية. أعني أن روح الإصبع ما به يتيسر تقليب الأشياء. وقلب الإنسان بين لمة الملك، ولمة الشيطان، وبهما يقلب الله تعالى القلوب، فكنى بالإصبعين عنهما.
وإنما اقتصر أحمد بن حنبل رضي الله عنه على تأويل هذه الأحاديث الثلاثة، لأنه لم تظهر عنده الاستحالة إلا في هذا القدر، لأنه لم يكن ممعنًا في النظر العقلي، ولو أمعن لظهر له ذلك في الاختصاص بجهة فوق وغيره، مما لم يتأوله.
والأشعري والمعتزلي لزيادة بحثهما تجاوزا إلى تأويل ظواهر كثيرة.
وأقرب الناس إلى الحنابلة في أمور الآخرة، الأشعرية وفقهم الله، فإنهم قرروا فيها أكثر الظواهر إلا يسيرًا.
والمعتزلة أشد منهم توغلًا في التأويلات، وهم مع هذا- أعني الأشعرية- يضطرون أيضًا إلى تأويل أمور، كما ذكرناه من قوله: «إنه يؤتى بالموت في صورة كبش أملح».وكما ورد في وزن الأعمال بالميزان، فإن الأشعري أول وزن الأعمال فقال: توزن صحائف الأعمال، ويخلق الله فيها أوزانًا بقدر درجات الأعمال.
وهذا رد إلى الوجود الشبهي البعيد؛ فإن الصحائف أجسام كتبت فيها رقوم تدل بالاصطلاح على أعمال هي أعراض. فليس الموزون إذن العمل، بل محل نقش يدل بالاصطلاح على العمل.
والمعتزلي تأول نفس الميزان وجعله كناية عن سبب، به ينكشف لكل واحد مقدار عمله، وهو أبعد عن التعسف في التأويل بوزن الصحائف.
وليس الغرض تصحيح أحد التأويلين، بل أن تعلم أن كل فريق، وإن بالغ في ملازمة الظواهر فهو مضطر إلى التأويل، إلا أن يجاوز الحد في الغباوة والتجاهل، فيقول:
الحجر الأسود يمين تحقيقًا.
والموت وإن كان عرضًا يستحيل فينتقل كبشًا بطريق الانقلاب.
والأعمال، وإن كانت أعراضًا، وقد عدمت، فينتقل إلى الميزان، ويكون فيها أعراض هيا الثقل.
ومن ينتهي إلى هذا الحد من الجهل، فقد انخلع من ربقة العقل.

.الفصل السابع: شرط التأويل، البرهان القاطع:

فاسمع الآن قانون التأويل، فقد علمت اتفاق الفرق على هذه الدرجات الخمس، في التأويل، وأن شيئًا من ذلك ليس من حيز التكذيب.
واتفقوا أيضًا على أن جواز ذلك موقوف على قيام البرهان على استحالة الظاهر.
والظاهر الأول هو الوجود الذاتي، فإنه إذا ثبت تضمن الجميع، فإن تعذر فالوجود الحسي، فإنه ثبت تضمن ما بعده، فإن تعذر فالوجود الخيالي، أو العقلي، وإن تعذر فالوجود الشبهي المجازي.
ولا رخصة للعدول عن درجة إلى ما دونها إلا بضرورة البرهان، فيرجع الاختلاف على التحقيق إلى البراهين.
إذ يقول الحنبلي: لا برهان على استحالة اختصاص الباري بجهة فوق.
ويقول الأشعري: لا برهان على استحالة الرؤية.
وكأن كل واحد لا يرضى بما ذكره الخصم، ولا يراه دليلًا قاطعًا.
وكيفما كان فلا ينبغي أن يكفر كل فريق خصمه، بأن يراه غالطًا في البرهان، نعم يجوز أن يسميه ضالًا أو مبتدعًا:
أما ضالًا، فمن حيث إنه ضل عن الطريق عنده.
وأما مبتدعًا، فمن حيث إنه ابتدع قولًا لم يعهد من السلف الصالح التصريح به، إذ المشهور فيما بين السلف أن الله تعالى يرى. فقول القائل لا يرى بدعة.
وتصريحه بتأويل الرؤية بدعة، بل إن ظهر عنده أن تلك الرؤية معناها مشاهدة القلب، فينبغي أن لا يظهره ولا يذكره، لأن السلف لم يذكروه.
لكن عند هذا يقول الحنبلي: إثبات الفوق لله تعالى مشهور عند السلف، ولم يذكر أحد منهم أن خالق العالم ليس متصلًا بالعالم ولا منفصلًا، ولا داخلًا ولا خارجًا.
وأن الجهات الست خالية عنه، وأن نسبة جهة فوق إليه كنسبة جهة تحت، فهذا قول بدع، إذ البدعة عبارة عن أحداث مقالة غير مأثورة عن السلف.
وعن هذا يتضح لك أن هاهنا مقامين:
أحدهما: مقام عوام الخلق. والحق فيه الاتباع، والكف عن تغيير الظاهر رأسًا، والحذر من إبداع التصريح بتأويل لم تصرح به الصحابة، وحسم باب السؤال رأسًا، والزجر عن الخوض في الكلام، والبحث، واتباع ما تشابه من الكتاب والسنة.
كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأله سائل عن آيتين متعارضتين، فعلاه بالدرة. وكما روى عن مالك، رحمه الله، أنه سئل عن الاستواء، فقال: «الاستواء معلوم، والإيمان به واجب، والكيفية مجهولة، والسؤال عنه بدعة».
المقام الثاني: بين النظار الذي اضطربت عقائدهم المأثورة المروية، فينبغي أن يكون بحثهم بقدر الضرورة، وتركهم الظاهر بضرورة البرهان القاطع، ولا ينبغي أن يكفر بعضهم بعضًا بأن يراه غالطًا فيما يعتقده برهانًا؛ فإن ذلك ليس أمرًا هينًا سهل المدرك وليكن للبرهان بينهم قانون متفق عليه، يعترف كلهم به، فإنهم إذا لم يتفقوا في الميزان لم يمكنهم رفع الخلاف بالوزن، وقد ذكرنا الموازين الخمسة في كتاب القسطاس المستقيم وهي التي لا يتصور الخلاف فيها بعد فهمها أصلًا، بل يعترف كل من فهمها بأنها مدارك اليقين قطعًا. والمحصلون لها يسهل عليهم عقد الإنصاف والانتصاف، وكشف الغطاء ورفع الاختلاف، ولكن لا يستحيل منهم الاختلاف أيضًا.
إما لقصور بعضهم عن إدراك تمام شروطه. وإما في رجوعهم إلى محض القريحة والطبع، دون الوزن بالميزان، كالذي يرجع بعد تمام تعلم العَروض في الشعر، إلى الذوق، لاستثقاله عرض كل شعر على العروض، لا يبعد أن يغلط.
وإما لاختلافهم في العلوم التي هي مقدمات البراهين، فإن من العلوم التي هي أصول البراهين، تجريبية وتواترية، وغيرها.
والناس يختلفون في التجربة والتواتر، فقد يتواتر عند واحد ما لا يتواتر عند غيره، وقد يتولى تجربة ما لا يتولاه غيره.
وإما لالتباس قضايا الوهم بقضايا العقل.
وإما لالتباس الكلمات المشهورة المحمودة، بالضروريات، والأوليات، كما فصلنا ذلك في كتاب محك النظر.
ولكن بالجملة إذا حصلوا تلك الموازين وحققوها، أمكنهم الوقوف عند ترك العناد على مواقع الغلط على يسر.